السجون اللبنانية من اكثر السجون العربية تعرضاً للتمردات وأعمال الشغب داخلها.. ولا يرجع هذا إلى أن لبنان هو من أكثر بلداننا حرية، وانما ايضا إلى سوء أحوال السجون اللبنانية نفسها بشهادة منظمات حقوق الانسان. «أوان» تستطلع في هذا التحقيق اوضاع هذه السجون. تكررت تمردات المساجين اللبنانيين في الاشهر الستة الماضية، وكان آخرها تمرد سجن القبة في طرابلس عاصمة الشمال التي فضحت الأوضاع المزرية التي تعاني منها السجون اللبنانية. خراب في الداخل والخارج. شروط اعتقال يصعب احتمالها حتى على اشد القلوب قساوة، وتشريعات تنتظر تنفيذها منذ سنوات.. وبالتالي ليس هناك من سبب للافتخار في لبنان الذي يدعي دوماً مثالية في الاعتدال والديموقراطية.
بين 21 موقع اعتقال أو ما يسمى سجناً، منها ثلاثة للنساء، يمكن التأكيد أن معظمها إن لم يكن كلها، باستثناء «سجن رومية»، تفتقد إلى الشروط الدولية الصحية والعددية والقانونية.. أي كل ما يتلاءم مع حقوق الإنسان، الى درجة أن كثيراً من هذه السجون يعود تاريخ تأسيسها وتنظيمها إلى أيام الانتداب الفرنسي، وحتى إلى زمن حكم السلطنة العثمانية، وبعيداً عن أي تحديث أو تطوير يلبي حاجات الواقع الراهن ومتطلباته. ويتفرد «سجن رومية» ببعض هذه الشروط، على الرغم من اكتظاظه بالمساجين والموقوفين، وبما تعجز حجراته ومساحاته عن استيعابه، علماً بأنه السجن اللبناني الوحيد الذي دُشِّنَ عام 1971، وفق الشروط الحديثة، على عكس ما هي عليه حال السجون الأخرى، التي ينام فيها السجناء ، في بعض الحالات، على شراشف ومخدات وعلى الأرض، وأحياناً رأساً على عقب.
بين الداخلية والعدل
مع زيادة قليلة عن خمسة آلاف سجين، إلى ما يزيد عن قدرة السجون اللبنانية على الاستيعاب، تستمر الأزمة، وهي مدعاة أسف شديد لدى منظمات حقوق الإنسان، فضلاً عن أنها أزمة تتمثل في بطء إصدار الأحكام بتجريم المعتقل بتبرئته وإطلاقه، وقد ينتظر هؤلاء أشهراً- إن لم تكن سنوات- صدور الأحكام. الى أسباب أخرى تزيد من حجم المأساة التي يعيشها المعتقلون خلف القضبان. ومنذ ثلاث سنوات جالت لجنة برلمانية على السجون وتوصلت إلى اقتناع بضرورة تحديثها وتحسين شروط الاعتقال، لكن الأزمات السياسية والأمنية المتلاحقة جعلت إمكانية التطوير والتحديث شبه مستحيلة. وحسب قانون صدر عام 1949، تخضع السجون لوزارة العدل وليس لوزارة الداخلية في الوقت الراهن، على أن تتولى القوى الأمنية مهمة الإشراف «مؤقتاً» عليها. إنما، وكما الحال في لبنان، يصبح «المؤقت دائماً» وحيث تستمر وزارة الداخلية بالإشراف على السجون منذ ستين عاماً، وهذا ما يحاول وزير الداخلية الحالي زياد بارود إيجاد حل له وتطبيق القانون المشار إليه بحيث تنتقل مهمة الادارة والاشراف على السجون إلى وزارة العدل. وقد تقدم بسؤال لهذا الغرض إلى الحكومة مجتمعة، بعدما عرض أوضاع السجون والمساجين المزرية، وقدم مجموعة أفكار من شأنها إصلاح الحال في المديين العاجل والبعيد. وقد وعد مجلس الوزراء بتخصيص جلسة لدرس الازمة من كل جوانبها، لكنها لم تنعقد بعد.
قانون 2006
صدر عام 2006 قانون يقضي بتخفيض مدة العقوبة تبعاً لحسن سلوك السجين، وذلك لمرتين في السنة (15 يونيو (حزيران) و15 ديسمبر (كانون الأول). غير أن هذا القانون ظل حبراً على ورق، وكذلك القانون الذي يخفض سنة السجين إلى تسعة أشهر. وهذا الوضع المتأزم دفع بعض منظمات حقوق الإنسان إلى تقديم الطلب بعد الآخر لدى الجهات المسؤولة إلى ضرورة «أنسنة» السجون حيث خلال سنوات طويلة، لم تلحظ هذه المواقع اي تجديد في بناها التحية، لا من حيث توسيعها ولا خدماتها، في الوقت الذي يزداد عدد المعتقلين والموقوفين سنة تلو أخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن سجن زحلة في منطقة البقاع، بغرفه القليلة والضيقة، عاجز عن استيعاب مزيد من النزلاء، ويزيد في الطين بلة، غياب شبه كامل للرعاية الصحية بإدنى شروطها. وما يعاني منه سجن زحلة، تعاني منه غالبية السجون اللبنانية، بحيث لم يلحظ المسؤولون عنها حجم المآسي التي يعانيها المحكومون، سواء على صعيد الأعداد القابلة للازدياد مقابل نقص في المساحات، أو على صعيد الخدمات المتناقصة تباعاً، حتى أنها بلغت في إحدى الفترات درجة الصفر. وفي هذا الصدد، كشفت احدى الجمعيات غير الاهلية أن نسبة عدد الموقوفين في الاشهر الاخيرة تراوحت بين 50 و200 في المئة، ما دفع المسؤولين عن السجون إلى حشرهم في غرف لا تزيد مساحة الواحدة منها عن 20 متراً مربعاً. وفي سجون النساء تبدو الأمور أكثر حرجاً كما هو واقع الحال في سجن ثكنة «بربر الخازن» في بيروت، حيث تتقاسم 36 سجينة غرفة ضيقة بالكاد تتسع لخمسة أشخاص. وتبعاً لتقرير أخير أصدرته منظمة «أطباء بلا حدود»، أكدت فيه أن سجون لبنان مكتظة ويستحيل عليها بعد اليوم استيعاب الأعداد الوافدة الجديدة من المحكومين. وإن حصل ذلك «يشكل تهديداً لصحتهم إن لم يكن لحياتهم». وحسب تقرير آخر أصدرته وزارة الداخلية وتسلمته لجنة حقوق الإنسان في الامم المتحدة، أكدت فيه أن «ليس في لبنان أطفال مساجين.. فمن هم دون الثامنة من اعمارهم ترعاهم مؤسسات حكومية وأهلية، في حين يتولى مركزان حكوميان صغار المراهقين ومن هم دون الثامنة عشرة من لقطاء ومشردين، يشرف عليهم اختصاصيون يعملون على توفير أفضل الشروط الصحية والتربوية للمقيمين فيها، وحيث يمكن لهؤلاء اكتساب المهارة في عدد من الصناعات والمهن، خصوصاً النجارة والحديد». وأشار التقرير إلى أنه منذ تأسيس هذين المركزين وحتى اليوم، تمكن المئات من المراهقين دون الثامنة عشرة من العمر، متابعة حياتهم العادية في ظروف اجتماعية طبيعية، وهم يعملون في عدد من المصانع والشركات. وفي المقابل، لفتت منظمات اهلية لبنانية غير حكومية، إلى أن بعض المراهقين يمثلون رهن الاعتقال المؤقت ما يزيد عن السنتين في سجون الكبار، وخصوصاً الفتيات وسط مناخات تفتقد إلى كثير من العناية الصحية وغياب شبه كامل للعناية الصحية وبرامج التربية والتدريب المهني، كما وانه في بعض الحالات يتم احتجاز عدد من الفتيات المراهقات وممن بلغن سن الرشد في دوائر الشرطة وبحراسة رجال، مما يعرضهن لمضايقات كثيرة وبأشكال مختلفة.
موت مجاني!
وفي رسالة تسلمتها الحكومة اللبنانية في 7 أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، تناولت شروط الاعتقال والاوضاع المزرية التي تعاني منها السجون اللبنانية، لفتت منظمات أهلية ودولية (الكرامة، حقوق الانسان، ألف، مركز شارت، حدود، والجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان)، المسؤولين إلى حجم معاناة المساجين على الصعد المعيشية والصحية والتربوية والمهنية جراء الاهمال وتقاعس المسؤولين عن القيام بواجباتهم. ولفتت الرسالة الى جملة احداث مؤلمة ومطالب منها وفاة ما لا يقل عن 27 شخصا في الاحتجاز المؤقت لعدم توافر الاسعافات الطبية اللازمة، وإهمال الادارة، والفوضى داخل السجون وضعف المراقبة والحراسة. وفي كل الحالات تقريباً، يتحمل السجين الضحية المسؤولية ويبقى المسؤولون أبرياء.
وسائل التعذيب
وسائل التعذيب والمعاملة السيئة التي يلقاها السجناء على أيدي الحراس والمحققين تشكل أسباباً رئيسة لنقمة المساجين ورفضهم الخضوع للامر الواقع، علماً بأن المادة 40 من قانون العقوبات اللبناني تُحرّم استعمال أي اشكال الضغط على السجين للحصول على اعترافاته. وتأكيداً على ذلك، قامت منظمات حقوق الإنسان بجمع شهادات أدلى بها السجناء وأعلنوا فيها تعرضهم للتعذيب والضرب أثناء استجوابهم. وحسب هذه المنظمات فإن قليلا من السجون ومراكز الاعتقال اللبنانية تتمتع بالشروط المقبولة لتتمكن من القيام بواجباتها إزاء سجنائها، وتمكن هؤلاء من العيش وفق مقتضيات الكرامة الانسانية، في حين أن غالبية هذه الأماكن ليست اكثر من زنزانات اتخذت موقعها في بعض الأبنية التابعة للإدارات الحكومية أو تحت الارض، ولذا لا بد من المبادرة إلى إقرار قوانين جديدة وإنشاء سجون حديثة وتحميل وزارة العدل مسؤولية إدارتها بدلاً من وزارة الداخلية، وإن كان الوزير بارود وعد اكثر من مرة بالنظر في هذه الاتهامات وبالتالي تحسين شروط الحياة للمساجين وعلى كل الصعد في كل المناطق اللبنانية.
التجهيزات الطبية
وتلازماً مع تحقيقات ومطالب منظمات حقوق الانسان، عقد في 15أكتوبر (تشرين الاول) 2008، اول مؤتمر بعنوان «العنايات الصحية المبدئية في السجون اللبنانية»، تناول الاوضاع الصحية المزرية التي يعاني منها السجناء، مطالباً المسؤولين من اعلى المراكز إلى أدناها بالحفاظ على المناقبية المهنية، تماماً كما يؤدي الاطباء قسمهم الشهير لدى تخرجهم. وشدد المؤتمر على ضرورة عدم تخلي الادارة عن مسؤوليتها الاساسية والمبادرة إلى وضع استراتيجية عامة لتحسين اوضاع المساجين والمعتقلين الصحية وتوفير كل المستلزمات الطبية. كذلك شدد على اهمية تشكيل لجنة طبية خاصة تكون مسؤولة مباشرة عن صحة السجناء وحياتهم وإقامة مراكز طبية في كل السجون.
اللجنة الدولية للصليب الأحمر
وخلال الأشهر الماضية التي أعقبت تمرد سجناء رومية، قامت لجنة منتدبة من اللجنة الدولية للصليب الاحمر بعشرات الزيارات لمختلف السجون اللبنانية، وبناء على مشاهداتها واعترافات المساجين، وضعت تقريراً أكدت فيه «أن هذه السجون هي أبعد ما تكون عن مراكز اصلاحية تربوية وتعليمية، وبالتالي يصعب في مثل هذه الظروف، ان يتمكن السجين بعد اخلاء سبيله وإتمام فترة عقوبته، من العودة إلى التأقلم مع المجتمع المدني». أضاف التقرير «وفضلاً عن الاكتظاظ غير الطبيعي الذي تعاني منه السجون اللبنانية، وفي أحيان كثيرة يحشر صغار السن مع الكبار، وكبار المجرمين مع صغارهم، فإن هذه التجمعات تؤدي إلى انتقال الفيروسات القاتلة من إنسان إلى اخر، وتبادل الافكار التي تؤدي في غالبيتها إلى ولادة مجرمين جدد بدل التقليل من أعدادهم، علماً بأن القوانين تنص على «فرز» الموقوفين حسب أعمارهم وحجم جرائمهم، وحيث لا بد من توفير أربعة امتار مربعة لكل سجين، لتتوفر الشروط الصحية والاجتماعية الملائمة حتى في سجنه، وبما يمكنه بالتالي بعد خروجه من الاندماج في الحياة الاجتماعية من جديد». يبقى أنه ليست المرة الأولى التي ينتفض فيها المساجين على اوضاعهم في سجن القبة بمدينة طرابلس عاصمة الشمال اللبناني، فقد سبق أن انتفض امثالهم في سجني زحلة ورومية العام الماضي، والحقيقة تبقى على الصعيدين الانساني والاجتماعي: السجن يجب أن يكون مدرسة إصلاحية وليس مصنعاً لتصدير مزيد من المجرمين.
ألبير خوري
التحقيق- صحيفة أوان http://www.awan.com/pages/feature/192693
18-03-09
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق